الإباضية مذهب وسلوك
الشيخ السيد عبد الحافظ عبد ربه
﴿رَبـَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾
إن دراسة الإباضية في عمومها وخصوصها ترينا النماذج الرائعة الحية من القضايا الإسلامية، والمفاهيم العقائدية، والتشريع الإلهي في شتى مجالات الكون، وفوق خريطة العالم، وعلى مستوى الإنسانية كلها، بما تنصلح به الدنيا ويستقيم معه الواقع، وتتضح عنده العقيدة، ويثرى فائضه رصيد البشرية ويتراءى حصاده زاهيا رابيا في أجواء العقيدة، وآفاق الدنيا، ويبدأ من لدنه مشوار التاريخ وتنطلق من محوره حركات الحياة في إيقاع منسق منظوم، وتوازن شيق منغوم، ضرورة أن الإباضية على الحقيقة رمز السلوك الإسلامي المهذب الذي يصح أن يقاس عليه سلوك المسلمين، ويحتذي به أي مسلم أو عربي عبر الأمة الإسلامية والعربية، ومن خلال الألف والسبعمائة مليون ممن يقولون "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وممن ينطقون العربية ويلهجون بلغة القرآن الكريم.
لقد امتد نسب الإباضية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واستقى معينه من كبار الصحابة، وبالذات من حبر هذه الأمة وعالمها عبد الله بن عباس الذي حمله في صدره وبشر به في أقضيته وفي فتياه، والذي أجمع عليه وتزاحم في تشريعاته وأصوله وفقهه ومنهجه علماء الإسلام وأساطينه من أمثال جابر بن زيد، وأبي عبيدة مسلم التميمي وعبد الله بن إباض ومرداس بن حدير، والربيع بن حبيب الفراهيدي ومحبوب بن الرحيل، وطالب الحق أبي يحيى عبد الله بن يحيى، وأبي حمزة المختار بن عوف، وبلج بن عقبة الأزدي وضمام بن السائب العماني، وغيرهم وكثير من خيار هذه الأمة، الذين قال الله تعالى فيهم وفي أمثالهم: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّـهِ..﴾.
وهكذا بدأت هوية هذا المذهب وملامحه، وذاتيته وشخصيته تتكامل كائنا سوياً في أعماق الدنيا، وفي أغوار الحقيقة، وفي وجدان الحياة منذ أن بدأ الإسلام أول خطواته فيها، آنئذ وضع قدمه هناك على الطريق القاصد، وفوق هذه الأرض المباركة التي تنزل فيها وحي الله على رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه.
إن أصالة المذهب الإباضي وصدارته لم تأت من فراغ ولم تنشأ هكذا اعتباطا، بل هيأ القدر الطريق أمام هذا المذهب، وأطاب له المناخ، وأمشى في مسيرته النجاحات المواتية، وشده في تفنينه وفقهه إلى المتاحات الواعدة المستقبلية، وأعده إعداداً كاملا معنيا مرعياً كي يتمكن من قطع الشوط، وإكمال المشوار وتطويق آماده، واستجنت واختبأت في ضميره ووجدانه، وظل يحملها حقبا متطاولة من عمر الحياة، حتى إذا شاء الله لها الظهور والولادة انفجرت عنها مشاعره واجتهاداته وجاءت إلى العالم في أسلوب من الوعي الجديد، وصيغة واضحة وضاءة على يد عمالقة الفقه وأساتذة التشريع وعلماء الإصلاح، ورجال الإباضية الشوامخ الذين نذروا نفوسهم لله وباعوها في سبيل ترشيد الإنسانية بيع سماح "أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه".
فهل يمكنني حينئذ أن أقول: إن المذهب الإباضي أيقظ حراس الإسلام والعروبة عبر آلاف السنين، وعلى مدى الدهور والعصور بما فعله وما سيفعله نهوضا بالإسلام ومن أجل قضايا المسلمين؟!
في الحقيقة إن الإباضية قد قصدت منذ نشأتها إلى تحرير الإرادة الإسلامية والفكر الإسلامي من التمزع والتفرع، والتفسخ والتشرخ في شؤون الدنيا وفي أمور الدين، وفي الوقت نفسه تكون قد قادت المسلمين إلى الهدف الجماعي الواحد ودفعت بهم إلى الطريق الصحيح اللاحب، ومشت معهم في زحف مقدس، وصف منتظم راكض إلى حيث تكون الوحدة الإسلامية، والفرقة الواحدة الناجية التي عناها الله في قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىا بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي..﴾ والتي ارتضاها النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأخبر عنها حين قال: "افترقت المجوس على سبعين فرقة، وافترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة".
إن الإسلام قد مُنِيَ _منذ سنواته الأولى وخطواته الطرية، أو بدأ من تعامله مع الحياة، في عهد الخليفة الثالث_ بالكثير جدا من الاضطرابات والفتن والكبير والخطير من البلايا والمحن حين تفرق المسلمون مزعا وشيعا، وتنافروا أقساما وأقساما، وكادت شأفتهم أن تنقضي وعصاهم أن تنكسر وأمرهم أن ينتهي وينفض.. وما زاد الطين بلة والقلب أوجاعا وعلة، هذا الهجوم الزاحف والطوفان الخاطف الراجف، والموج الهائل المتلاطم، الذي جاء في معية هذا الفكر الغريب الوافد على البيئة الإسلامية والمتمثل في الفلسفة اليونانية والوثنيات الإغريقية والشطحات المجوسية الفارسية، والمتاهات الزرادشتية والترهات المانوية، والبوذية والبراهمية.
إلى غير ذلك من الديانات الشرقية الوضعية، والأباطيل والأضاليل التي نفثها الشيطان في أرواع أصحاب هذه الملل والنحل، من أحلاسه وأتباعه وسدنته وأشياعه والمنفذين أمره والمنتهجين نهجه، والسائرين على حداه وخطاه.. هذا إلى جانب ما أثقل الأمر وقصم الظهر، من الفرق الإسلامية العديدة، والطوابير الطويلة المديدة، التي أضعفت كيان العقيدة وأثقلت كاهل الدين، بما ابتدع واتبع وبما أحدثوه بينهم وتنازعوا عليه، واختصموا فيه، وتساقطوا عنده ضحايا وصرعى من مثل الاعتزال، والغلاة والجرأة واللامبالاة والتشيع والانحياز المتجسم المتضخم في المعتزلة وغلاة الخوارج والصفاتية والحشْوية والمشبهة، والقدرية والشيعة مع ما انشطرت إليه هذه الفرق والطوابير من فروع وتشكيلات، ومذاهب ومناحي واتجاهات وأيضا مع ما اندرج ضمن هذه اللافتات وانضوى تحت لوائها من تسميات وأسماء ومسميات بما تفوق العد وتتجاوز الثلاث وسبعين فرقة بكثير وكثير... الأمر الذي يبهر العادين ويعجز الحاسبين.
ومن خلال كل هذه التراكمات والتناقضات، والأعداد والكميات وما يدور بينها، ويحدث في صفوفها من منازعات واختلافات وصدامات وانقسامات.. نرى تلك "الفرقة الناجية" وقد خرجت وحدها من وسط هذه المعمعة، وجحيم تلك المعركة وهي تلوح بأغصان الزيتون، وفروع الورد، أو قد هيئتها الإباضية و ادخرتها لمثل هذا اليوم، ولتقوم قادرة ماهرة بهذا الدور البطولي البارع الذي يحفظ على المسلمين وحدتهم ويبقى على كيانهم، ويصون لهم العقيدة والدين...
وبعد هذا كله يمكنني أن أواجه _أو أجابه_ المتشككين والمتشائمين من دعاة التفرقة المذهبية، وأحلاس الهوى المغرض والمتشنجين، والمتعصبين، وغلاة العقيدة والخارجين على الجماعة، والمتسوقين في بضاعة الدين والمترهلين عند بعض الفتاوى والجامدين على بعض الآراء من سماسرة القيل والقال وعملاء التميع والتمزق وكهان التفرق والتفسق وأصحاب هذا الفكر الجامد المعاند؟.
هل يمكنني أن أواجه _أو أجابه_ أو أقول لكل هؤلاء وأولئك، تلك هي أنظف بقاع الدنيا، وأطهرها وقد اعتنقت ذلك المذهب الإباضي الذي بعد بها _وبالعالم الإسلامي كله_ عن هذه المتاهات، وتلك الشقشقات والشنشنات التي دوخت البشر وأتعبت الناس وآدت كاهل الكون، وأثقلت عاتق الأيام وزلزلت أو زعزعت كيان الوجود؟.
تلك هي الجزائر وتونس وليبيا والمملكة المغربية وحضرموت وعمان ودول الخليج وزنجبار وشمال وشرق إفريقيا.. وعموما بعض الجيوب المصرية وبعض أطراف السعودية وقد تمذهبت كلها بمذهب "أهل الإستقامة" واعتقدته منهجا وطريقا، وتفاعلت معه سبيلا وسلوكا..
تلك هي تطلعات الإباضية في الماضي والحاضر والمستقبل أصالة وعراقة وأملا وعملا، وبناء وطموحات، ونهضة ويقظة وأمانة ونية، ووثبة وهمة، وذودا على العروبة، ودفاعا عن الإسلام وحماية لقضايا الشعوب والأمم ووقوفا صادقا صامدا وانعطافا منحازا قاصدا مع كل مضطهد مغلوب أو عان مكروب أو يائس بائس، يطحنه الذل، ويمضغه الظلم وتسحقه الحاجة ويرغمه الفقر ويقهره الهوان، ولا تفتأ التناقضات تلهب ظهره وتثقل أصره وتدق فوق رأسه بمطارق المعسكرات الدولية أو الانتماءات الحزبية أو التقوقعات الشعوبية أو الملاهي الشيطانية، الصبيانية، كما نرى ونشاهد ونسمع ونقرأ، من كل ما يثير الغثيان، ويغضب الإنسان، ويفر به هاربا غاربا إلى الغابات أو أدغال المارستان..
إن العالم الإسلامي وقد تحكمه قوانين الاحتمالات وتشطره اختلافات الفقهاء وتمزقه المذاهب، وتقطع أوصاله الاجتهادات فردية كانت أم جماعية، بدأ يسترد أنفاسه اللاهثة، وجهده المكدود، وخطواته الراكضة اللاغبة التي طالما أمشاها على رؤوس الحراب، وفي مفترق الطرق، وفي ظل هذه المؤسسة الوليدة الشرعية، والتي انفرج عنها، وتمخضها الفكر الإسلامي الصحيح المصفى، والخالي من التعقيد والتعصب والمنبثق أصلا من المنبع الأساسي للعقيدة، والمصدر المتفق عليه بين رجال القرآن والحديث، ورواد الفقه والشريعة وأساتذة الدين والإيمان والذي اعتمده الرسول صلوات الله وسلامه عليه بين أمته وجماعته مرجعا لهم وقانونا في قوله: "لقد تركت فيكم، ما إن اتبعتموه لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي".
أقول: لقد توحد العالم الإسلامي، واستراحت أمته، في ظل وفي رحاب مؤسسة أهل الاستقامة، أو "الفرقة الناجية" أو "الجماعة التي نعتها الله تعالى بالخيرية في قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..﴾ وأعني بها الإباضية مذهبا وسلوكا، سنة وطريقا، تعاملا وتداولا.
وإن المتتبع لسلوك هذه الطائفة، وتناولها للدين وتعاملها معه، ليدرك من أول وهلة، ويعتقد يقينا أنها الفرقة "الواحدة" بين الفرق الثلاث والسبعين التي ضمت جوانحها على الدين واستقبلته في صدرها، ومارسته وتعاملت معه كأسلوب صحيح وصيغة مضيئة، ومن هنا لا عجب أن تمذهبت بها الحياة وأصدرت وأوردت كل شؤونها الدينية والدنيوية من ثنايا _ومن خلال_ ما نشير به وتدل عليه وتقف عنده وترشد إليه وتثق فيه.
هذا وإن للمذهب فقهاءه وعلماءه الأجلاء الفضلاء، الذين توافروا على استنباط أحكامه، وتوضيح مسائله من الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح، والذين ربطوا عن منهجه وبرنامجه شؤون الدنيا بشؤون الدين وأطالوا يد الإسلام بيضاء غراء، حتى التفت حول الأمة، وأصابت كل شيء فيها بالتهذيب والتشذيب واحتضنتها، وأحسنت إليها، كما دفعت عنها وطاردت كل دخيل أو غريب أو متلصص عليها، أو متسلل إلى جواهرها ومكنوناتها، إما بقصد السرقة أو التلبيس أو التدليس فيها وغشها، أو العمل على نسفها تماماً..
ولست في حاجة إلى الاسترسال الطويل في بيان ما أفادته الحياة عن طريق الفكر الإباضي، ولاسيما في العمل على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفهم وانطلاقهم جميعا من مبدأ واحد وإلى غاية واحدة.
وها نحن اليوم نرى من آثار هذا الفكر المذهبي والطريقة التي نعبد الله عليها، والطريق التي نقطعه ونمشيه إلى تعاليمه وأداء واجباته، ما يندى الجبين ويشيب الطفل ويذهل كل مرضعة عما أرضعت، ويكسر الناس، ويدعو إلى الأسى والأسف والفجيعة والمرارة، فيما أصاب الدين وفيما أصاب المتدينين من جراء ما غرقوا فيه إلى الأذقان، ومن هذه التشكيلات المذهبية والموديلات و"الشللية".
لاشك أن هذا كله يمزق كيان الدين، ويفتت وحدته، ويقضي عليه ويمزق بالتالي كيان المسلمين المتدينين ويفتت قوتهم وتماسكهم، ويقضي عليهم قضاءه المبرم وتفنيهم الفناء الذي لا قيامة بعده أبداً.
وهذا فعلا من فعل الأبالسة الخبثاء أو السذج البسطاء أو أعداء العقيدة والدين.
ولن يسترجع المسلمون مجدهم الغابر، وأمسهم الدابر وقوتهم الذاهبة، وشمسهم الغاربة، إلا بالاعتصام بحبل الله جميعاً، وأن لا يتفرقوا، وأن يتحدوا فيما بينهم، وأن لا يقلبوا وجوههم حائرين في الأرض أو في السماء، وأن يلبسوا الياقات المنشأة القابضة التي لا تسمح لهم بالالتفات يمنة ولا يسرة وأن يتركوا عبادة الأشخاص والهرولة إلى "الإيديولوجيات" التي صنعها أشرار الناس.
حينئذ _وحينئذ فقط_ يمكن للمسيرة الإسلامية أن تنطلق في ركب قوي _قوامه أكثر من ألف وسبعمائة مليون مسلم عربي_ إلى غاياتها الضاربة في أعماق الحياة الذاهبة، تطلعاتها إلى مأتيات السماء ﴿قَدْ نَرَىا تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّـيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾.
أقول: كان من أثر ذلك _أو كرد فعل أو رجع الصدى لكل تلك الشيطانيات "والنجاتف، لكل هذه الكرنفالات"_ أن انعكست هذه الرؤية الكابية المعتمة ناطقة معبرة عن التمزق الشامل الخانق، والخراب الداهم الحانق، الذي أحاط بالأمة وأصابها في شتى مرافقها وجوانبها ومؤسساتها وفي حياتها السياسية بالذات، ولاسيما وعلى الأخص المنطقة العربية، من الخليج إلى المحيط، التي يعايشها ويواطنها أكثر من مائتي مليون عربي، الأمر الذي أطمع فيهم الأعداء وأغرى بهم السفهاء وجرهم دائما إلى الوراء والخلف وساقهم جميعا، وأبدا إلى الهلاك والحتف.. وشد الأمة إلى ما الله به عليم... فكثرت فيها الطوائف والنحل وتهاوت في مستنقعاتها "المجموعات" و"الشلل" وتناوح بين أطلالها الخراب وتنازعتها الهيآت والأحزاب.
وهل يعقل يا قوم أن يتقاتل الأخوان، أو يتقابل الشقيقان في معركة أو يختلف أهل البيت الواحد فيما بينهم أو أن يشتغلوا جميعا عن أمرهم، حتى يتسلل إليهم العدو ويمزق كيانهم، ويقضي فيهم قضاءه، ويعمل جاهدا على محو معتقدهم وشطب دينهم، ومسحهم كلهم من فوق خريطة الوجود، وجغرافية الحياة، كما نرى اليوم ونعايش هذه الأحداث المروعة، في أفغانستان وباكستان و اندونيسيا وماليزيا، وبلغاريا والهند وفي أطراف إفريقيا وفي بعض الجيوب الآسيوية، وخاصة في فلسطين ولبنان وفي الجبل والجولان؟... معارك في المغرب وفي الصحراء الغربية معارك في ليبيا وفي تشاد وفي جنوب السودان... تحرشات ضاربة بين سوريا والعراق... والعراق وإيران... والأكراد والأتراك... وكلهم مسلمون وا خجلاه.
ولا شك أن من وراء هذا كله الاستعمار الكافر اللئيم، من وراء هذا الصهيونية والشيوعية والصليبية والرأسمالية وكل من ينتمي إلى هذا الطابور الغادر... وا ويلتاه وا إسلاماه و وا عروبتاه من كل هذا الذي أصاب المسلمين والعرب، ومن كل خطر راصد متربص، مرتقب، يجريه العدو والمستعمر هنا وهناك في كل أصقاع الأمة، وفي كل بقاع العروبة وديار الإسلام..
..ومن هنا فإن الأمم التي احتضنت الإباضية لم تزل وستظل تلح على إنجاز ما خطته وإنفاذ ما رسمته، وإكمال ما بدأته وخططت له، وذلك عن طريق العقيدة والسلوك المنهجي المتوائم مع المذهب الصحيح الذي تتراءى بين أبعاده وتتضح في نطاقه وآماده صور الحياة الإسلامية الكريمة التي أدرك بها السابقون الشوط والشأو، وحقق بها اللاحقون، الرجاء المنشود والأمل الحلو، وأعني بهذا المذهب "مذهب الإباضية" الذين تناولوا به الدين في سهولة ويسر، وتعاملوا معه بطول نفس، ورحابة صدر، وتعاطوه برنامج عمل يقطعون به مفازات الحياة وصحرائها، في حراسة الدين ورعاية العقيدة وعناية ساهرة يقظى من تعاليم الإسلام فلم يتشددوا ولم يتعصبوا ولم يغالوا ولم يغرقوا، وكذلك لم يفرطوا في معتقدهم أو يتناولوه بضعف أو يتعاطوه بميولة و إسفاف وإنما كانوا بين ذلك قواما.
فلقد استنبطوا مذهبهم من القرآن الكريم، واقتبسوه من السنة المطهرة، وسلكوا في مسيرتهم إلى عبادة الله نفس الطريق التي سلكها الصحابة وارتضاها الإجماع، وحرصوا كل الحرص على أن تكون خطواتهم على ذات الدرب، وفي نفس الطريق وفوق (إفريز) الشارع ومع السبيل التي قطعها الرسول صلوات الله وسلامه عليه، في مشواره الطويل وشوطه البعيد، جيئة وذهابا، على مدى مسيرته المباركة ورسالته الميمونة عبر الثلاثة والعشرين عاما، ومع تحرّيهم الصدق وانتهاج الحق، ومجاهدة النفس وريادة المعاناة والرياضة والترويض على المشقة والمقاساة، حتى استبان لهم الأمر ووضح أمامهم الطريق، وتبين للعالم أجمع، أو المخلصين المنصفين أن هؤلاء هم "أهل الاستقامة" أو هم في الواقع وعلى الحقيقة "الفرقة الناجية" التي اخبر عنها الصادق المعصوم والتي أمر الله ورسوله أن يختارها وينتهجها سبيلا يوصل إلى عبادته ومرضاته في قوله تعالى ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِيَ أَدْعُو إِلَى اللَّـهِ عَلَىا بَصِيرَةٍ اَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّـهِ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾.
والمذهب الإباضي ليس عجيبا في الدنيا ولا غريبا عن الحياة وإنما هو العملة الصحيحة التي يجب تداولها وتناولها والتعامل بها في شتى الأنحاء، وفي جميع المناخات والأجواء وهي بعون الله عملة لا ينالها التزييف أو التلبيس ولا يطولها الوضع أو التدليس، ولا يجوز في منطقها العمل بين بين ولا التنكر في وجهين ولا المشي على الحبلين، فالحق عندها واحد لا يتجزأ وكل لا يتوزع.
...الإباضية تدعو إلى التمسك بكل ما جاء به الإسلام من مُثُل وأخلاق، وقيم ومبادئ وأخلاقيات ومناهج، تدعو إلى الأسلوب الأمثل، والحوار الأفضل، والملاينة في الجدل والنقاش للوصول إلى الحق والصواب، وتدعو إلى طاعة الحاكم وعدم الخروج عليه بأي حال من الأحوال إلا إذا عصى الله بالفعل أو بالإقرار فيجب نصحه وتوجيهه فقط لا غير... خوف الفتنة والاضطرابات.
والإباضية دائما تهيئ المسلم بأن يكون مع الله في معاملاته وعباداته، في الجامع وفي الشارع، في الحقل والمصنع، في المتجر والمعمل، في المعهد والمدرسة والجامعة وحده أو مع الناس في كل حركاته وسكناته.. تدعو إلى مجتمع نظيف شريف، نزيه عفيف يكره الفوضى والديماغوجية، تسوده المحبة ويظلله التراحم، يمقت الغش ويثور على الرشوة، ويحرم المحتكر ويحاكم المتجر المتحكم في أقوات الناس وفي ضرورياتهم، الإباضية هي كل هذا وأكثر من هذا... هي الفيصل والحكم الذي يبدي الرأي واضحا في معارك المسلمين ومشاكلهم، هي الترجمة الأمينة الصادقة لسلوك النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وأصحابه الأئمة الهداة المهتدين، هي عودة بالمسلمين من جديد إلى عهد النبوة الأول في صدر الإسلام ونضارته... هي إذابة الفرد المسلم في ألف وسبعمائة مليون مسلم، وهي بالتالي إذابة هذه الملايين الحاشدة الهائلة في الفرد المسلم الواحد، بحضانته ورعايته وكفايته وكفالته..
ها هي الحقيقة سافرة والعقيدة ناهية آمرة، لا تجامل على حساب الدين، ولا تداهن ولا تمالىء، بل تجاهر بالحق صادعا وبالشرع وفقهه ناصحا وازعا، وتخاطب الناس جميعا على حد سواء لا فرق بين حاكم ومحكوم، وتابع ومتبوع، وسيد ومسود لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والعمل الصالح ومن هنا عاداها أراذل القوم والسفهاء من الناس تماما كما عادى الكفار أصحاب الرسالات والنبوات في كل زمان ومكان... ذلك لأنها كشفت عن سوءاتهم وسيئاتهم وفضحت عورتهم وسحبت البساط من تحت أقدامهم لاسيما الحكام والقائمين على الأمور حين أرتهم للرائين المشاهدين حكاما من "كرتون" وقائمين على الابتزاز والاكتناز وخطف اللقيمات من أفواه المحكومين، ولقد عانت الإباضية من كل هؤلاء ما عانت عبر مسيرتها الأميدة البعيدة، وعلى مدى الأشواط الطويلة الضاربة في أعماق السنين وفي أغوار الماضي والتاريخ حتى يومنا هذا.
عادوها لأنها تجهر بكلمة الحق وتنطق بالصواب ولا تحب الجهر بالسوء من القول..
عادوها لأنها تريد أن تطبق شرع الله وتحقق المفاهيم الإسلامية الصحيحة.
عادوها لأنها تعالج الأمور بموضوعية صادقة بعيدا عن التهريج والهوى والإسفاف..
عادوها لأنها تعمل جاهدة على تأكيد العدل والتبشير به بقدر ما تحارب الظلم والظالمين.. وسامح الله أصحاب بعض المذاهب الأخرى الذين انضووا تحت ألوية الحكام الباطشين فقالوا بمقولاتهم، واتهموا الإباضية كما اتهمها هؤلاء وشنعوا على أتباعها وأنصارها بأنهم من الخوارج المغالين وألصقوا بهم كل النقائص والمثالب، تقربا إلى أسيادهم وأرباب نعمتهم الذين سلطوهم جبارين ظالمين على هؤلاء الأخيار الأبرار وعلى مذهبهم الإباضي الذي أعاد للأذهان عهد النبوة والصحابة، وأرانا صورا صادقة للإسلام في مرحلته الأولى على يد محمد صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أيدي رجاله الملتفين حوله، والمناصرين له والذين قال الله فيه وفيهم: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنَ اَثَرِ السُّجُودِ﴾.
..إن الإباضية اليوم في المغرب العربي يسكنون جبل نفوسة وزوارة من طرابلس، وجزيرة جربة من تونس ووادي ميزاب بالجزائر كما أن للإباضية كذلك ثقلا كبيرا في جمهورية مستقلة ببلاد القوقاز، هذا إلى جانب الأعداد الضخمة من اتباع المذهب بجزائر افريقيا الشرقية وأيضا في جزر زنجبار وفي الخليج العربي وحضرموت، هذا خلال الملايين الإباضية في عمان، أما في مصر وفي السعودية وفي العراق، وفي بعض البلاد الأوروبية فللإباضية فيها كذلك رحلات وإقامات ووصايا وتعاليم وأنصار وأشياع.. أوليست الإباضية هي مذهب الفطرة النقية البيضاء، والجبلة الصافية البهاء؟!، ﴿صِبْغَةَ اللَّـهِ وَمَنَ اَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾.
وإني لأعجب لعلماء المسلمين ولاسيما علماء الأزهر والزيتونة والقيروان، والجامعة الإسلامية والجامعات والمعاهد المتخصصة في دراسات الإسلام، ومن تجاهل هؤلاء جميعا هذا المذهب النقي التقي الذكي؟ كيف طاوعتهم قلوبهم وعقولهم في أن يحجموا أو يتلكأوا عن الإسراع هرولة إلى رحاب الإباضية والاستمتاع بما فيها من فقه وتشريع وأصول واستنباط، وتبصرة حقيقية بالدين، وتوعية مستوعبة لكل أفراد المسلمين؟ كيف بهم لم يسهموا في نشر روائع هذا المذهب ولم يشاركوا في التبشير به، والالتزام بمنهجه ومشربه؟ إنهم إن استوعبوه وأدركوا بركاته وخيراته ثم تقاعسوا عن نصرته، يكونون مقصرين في أمر الدعوة، وتسقط عنهم حصانة العلم وأهلية العلماء وإن لم يستوعبوا المذهب بالمرة ولم يقدروا على الإحاطة به واستقطابه وتعشى عيونهم عن إبصاره والتطلع إليه، يكونون قد خيبوا أمل الناس فيهم ولم يعودوا العلماء بل يصبحون الجهلاء وسيكون جهلهم حتما حينئذ "جهلا مركبا" ويصدق فيهم أو عليهم قول القائل: "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم".
إن الإباضية على الوجه الصحيح هي الرؤية الواضحة لصفاء الإسلام ونقائه، وهي كذلك أبجدية الدين، والمدخل إلى العقيدة وبالتالي فهي العقل المطلق الكلي الذي يستشار في أصعب المشكلات دينية كانت أو دنيوية، لأنه أقوى من المشكلات، ولأنه يطوق المشكلات ثم يقتحمها ويفض اشتباكها ويحلها حلا سليما متكاملا ترضى عنه جميع الأطراف بقناعة وإيمان ويقين.
السيد عبد الحافظ عبد ربه
من علماء الأزهر.
جميع الحقوق محفوظة لمسجد المنار بالحميز - Copyright © 2013 - 2025 تصميم و إنجاز SoftArt
أضف تعليقا